المحاضرة الرابعة من برنامج اعداد وتأهيل المحكمين - الوساطة كأحد الوسائل البدبلة لحل النزاعات.
الوساطة كوسيلة بديلة لحل النزاعات: نحو عدالة أكثر مرونة وكفاءة
في عالم اليوم الذي يشهد تزايدًا في التعقيدات القانونية والتجارية، برزت الوساطة كإحدى الوسائل البديلة الفعّالة لتسوية النزاعات. وتعد الوساطة، على عكس التحكيم أو القضاء، أداة ديناميكية تركز على التفاهم المتبادل والتوصل إلى حلول ودية، بعيداً عن الصراعات الصارمة التي يمكن أن تسود في المحاكم التقليدية. باعتباري مدربًا وخبيرًا قانونيًا، أؤمن بأن الوساطة تمثل مستقبل حل النزاعات، وخاصة في القضايا التجارية والعائلية والمدنية.
ما هي الوساطة؟
الوساطة هي عملية يتم فيها الاستعانة بشخص محايد (الوسيط) لمساعدة الأطراف المتنازعة على التوصل إلى تسوية مقبولة للطرفين. يتميز الوسيط بأنه لا يفرض حلاً، بل يعمل على تسهيل الحوار بين الأطراف، من خلال تحليل مصالحهم ومواقفهم وتشجيعهم على التوصل إلى حل يرضي الجميع. إنها عملية تعتمد على التفاوض والتعاون بدلاً من المواجهة.
أنواع الوساطة:
1. الوساطة الاتفاقية:
تعتبر الوساطة الاتفاقية (الطوعية) هي الأكثر شيوعاً في المنازعات التجارية والمدنية. في هذا النوع، يختار الأطراف اللجوء إلى الوساطة بناءً على اتفاق مسبق أو رغبة مشتركة في حل النزاع بطرق ودية. الوساطة الاتفاقية توفر مساحة للأطراف للعمل معًا على بناء حلول تفيد مصالحهم، دون أن تفرض أي حلول قسرية عليهم.
الوساطة الاتفاقية تتميز بأنها:
- مرنة: حيث يمكن للطرفين تحديد قواعد وأطر الوساطة، واختيار الوسيط الذي يتناسب مع احتياجاتهم.
- سرية: جميع المناقشات التي تتم في جلسات الوساطة تكون محمية ولا يمكن استخدامها ضد أي طرف في حال عدم التوصل إلى اتفاق واللجوء لاحقًا إلى القضاء أو التحكيم.
- سريعة وفعّالة: الوساطة الاتفاقية توفر الوقت مقارنة بالإجراءات القضائية الطويلة والمعقدة.
2. الوساطة القضائية:
الوساطة القضائية تختلف عن الوساطة الاتفاقية في أن القضاء هو الذي يقترح أو يفرض الوساطة كخطوة أولى قبل اللجوء إلى المحاكمة. العديد من الأنظمة القضائية اليوم، بما في ذلك بعض الأنظمة العربية، تروج للوساطة القضائية كوسيلة لتخفيف العبء على المحاكم وتقليل تكلفة النزاعات. يتميز هذا النوع من الوساطة بأن:
- إلزامي جزئيًا: في بعض الحالات، قد تكون الأطراف ملزمة بمحاولة الوساطة قبل اللجوء إلى المحكمة. ولكن نتائج الوساطة نفسها ليست إلزامية إلا إذا اتفقت الأطراف عليها.
- فعّالة من حيث التكلفة: الوساطة القضائية تقدم حلاً أقل تكلفة للأطراف، مقارنة بالقضايا التي يمكن أن تستمر في المحاكم لفترات طويلة.
- تشجيع من قبل المحاكم: بعض القوانين تحفز على الوساطة القضائية كخطوة لحل النزاع قبل الوصول إلى الحكم القضائي.
مزايا الوساطة:
الوساطة كوسيلة بديلة تتمتع بالعديد من المزايا التي تجعلها خياراً جذاباً للأطراف:
- الحفاظ على العلاقات: بفضل تركيزها على التعاون والتفاهم، تسهم الوساطة في الحفاظ على العلاقات بين الأطراف، وهو أمر بالغ الأهمية في النزاعات التجارية والعائلية.
- السيطرة على الحل: الأطراف هم من يتحكمون في الحل الذي يتم التوصل إليه، على عكس القضاء الذي يفرض حكمه.
- تخفيف العبء على المحاكم: مع تزايد أعداد القضايا أمام المحاكم، أصبحت الوساطة وسيلة لتخفيف الضغط على النظام القضائي وتمكين الأطراف من التوصل إلى حلول سريعة ومرضية.
- مراعاة مصالح الأطراف: الوساطة تهدف إلى تحقيق حلول مربحة للطرفين (win-win)، مما يساهم في تلبية المصالح الحقيقية للأطراف بدلاً من الاكتفاء بقرارات قانونية قد تكون صارمة في بعض الأحيان.
دور الوسيط في العملية:
الوسيط ليس قاضياً ولا محكماً، بل هو شخص محايد يعمل على:
- توجيه الأطراف خلال جلسات الوساطة لضمان تحقيق حوار بناء.
- مساعدة الأطراف في تحليل القضايا المطروحة بشكل موضوعي.
- طرح بدائل للحلول ودعم الأطراف للوصول إلى تسوية. يعتبر الوسيط هو حلقة الوصل التي تسهم في تجاوز الحواجز العاطفية أو الشخصية بين الأطراف للوصول إلى حل يناسب الجميع.
الوساطة كوسيلة المستقبل:
باعتباري مدرباً في مجال الوسائل البديلة لحل النزاعات، أؤمن بأن الوساطة هي وسيلة حيوية وفعّالة تتجاوز العوائق التقليدية للقضاء. تتيح الوساطة للأطراف التحكم في مسار الحل والتوصل إلى قرارات مبنية على تفاهم وتعاون. في عالمنا المعاصر الذي يتطلب حلولاً سريعة ومرنة، تبقى الوساطة واحدة من أبرز الأدوات التي تلبي هذه المتطلبات بفعالية كبيرة.
ختاماً، أدعوكم لاعتبار الوساطة خيارً ا أوليًا في حل النزاعات، خصوصاً تلك التي تتطلب مرونة وسرعة وحلول مرضية لكل الأطراف.
ملاحظة:
مشاهدة تسجيل المحاضرة متاح فقط للمشتركين في البرنامج التدريبي.